سعيد الحمد: "التنوير" من دون أهله

أخيرا وجد الرجل ما يشتهر به. الصحافي الكسول في صحيفة "الأيام"، وصاحب العمود اليومي المُضجر، المُعاد بتكرار كلثومي، حيث قول الشيء ونفسه عشرين مرة، من دون علامة ترقيم أو وقفة تهوية، غدا نجم الشاشات الآن. نجم إطلاق الغرائز من لجامها المفعم كرْهاً وحيوانية: سعيد الحمد. وهي نجومية عجز عن كسبها يوم كان الزمن زمن عقول وبرْي مَلَكات. يومها كان "الليبرالجي" المتصابي في الخمسين، يقع مقام الصفر في معمار "صاحبة الجلالة". لا يُعرف له سبق صحفي، أو خبطة تكشف مستتراً استخفى، ولا كتابة غير مسبوقة. وشبهه في تداوله لمقولات التنوير والتقدم شبه "الدابة" المستذبحة: "عباسها على جبّاسها"! وكعادته في تدوير المترادفات، دوران خلطة الجبس في بطن جبّالة الإسمنت، تستوي عنده بلا حذر: مقولات العقل والعقلانية والحداثة والتنوير والليبرالية، جديدة وقديمة، والتقدم والتفتح والعلمانية، في معنىً واحد وحيد. على خلاف ما يستحثه طرحها داخل بيئات الفكر من معانٍ إشكالية، وهي حتماً غير تلك، بيئات الخَوَران و"النجاب" التي تمرّن فيها. على ذلك، فقد واظب على التجربة في رؤوس "القرعان" عبر مقالته الأسبوعية الطويلة التي تتنزل من شاهق ملحق "مدارات" حتى قاعه الصفصف. علْكاً ودعكاً في مفاهيم عويصة تتساوى فيها "سوسو" بالسوسيولوجيا و"الببسي" بالإبستمولوجيا. في عملية صناعة وهم مثقف غصْباً عجز باستمرار أن يكونه، إذ "كلما ضربها جاءت عوجاء". فيأتي التعويض له هرْفاً من سوق الكلمات الرنّانة من ذوات الجيم، التي تقوى بالطبع على إحداث "رنّة"، لكن ليس على تغطية "الزنين". وفي مشهد إلى المسرح أقرب، أمام حال صحافي بطيء المدارك، لم يتقن بعد تركيب الفاصلة المنقوطة من النقطة في جملة، ستكون "طرفة" سمجة تلك، تنفرج لها أسارير زملاء "الكار" حين سيتفاعل نبأ إلقائه محاضرة عن "فن كتابة العمود" في جمعية الصحفيين. الجمعية التي تدار من "ولي نعمته" نبيل الحمر كما يدار أي تنظيم "مافيوي". يومها زمّت ابتسامة عريضة شفتي زميل منه قريب. قال "الرجل الذي يكتب بلا كتابة صار يحاضر في الكتابة". قبل أن يذهب إلى تفسير هذا الحكم القاسي بحقه: "منذ 20 سنة وصاحبي يكتب عموداً واحداً". تماماً مثلما ترتصف لصْقاً ببعضها طوابير الألفاظ المعطوفة في ثنايا أعمدته. يقول: التباين والتخالف والتفارق والتمايز والتغاير والتنافر والتضاد. كل هذا الجهد المضني - ساعده الله! - من أجل أن يشير إلى معنى واحد بسيط تختصره كلمة واحدة: اختلاف! لكن أشد اللحظات مسرحة في "ليسنه" الصحفي هي تلك اللحظة البائسة وهلة سيمسك، كما يمسك مقامر ورقة اليانصيب، تحرير "صدى الأسبوع" خلفاً من قامةٍ شامخة تلك التي كانها عميد الصحفيين علي سيار. فإذْ أريد له "تخليص" الصحيفة من أزمتها التي حتمت على الأخير مُكرهاً بيع امتيازها، إذا به يسهم في "تلخيصها"، والتعجيل بهلاكها. وهي تجربة مرّة يفضل الحمد طمرها طيّ الكتمان. فلا يظفر منها بغير ذكرى بائسة لعموده ذاك، الخفيف المتشبّب، في ختام صفحاتها ممارساً عبره طقس "العبو والربو والجمبزة". وأشد منها هلاكاً بل إيغالاً في المسرح، وسواليفه، الساعة تلك حين سيمسك أحد برامج الهذر والبربرة على موجة أثير إذاعة البحرين. يومها كنت تأسف على تحويله لهجة مدنية جميلة، كتلك التي كانتها ولما تزال اللهجة المحرقية، الغنية بمفرداتها وإيقاعها، إلى بربرة "عواجيز الفريج" في المغربية. فيما زعم يومئذ أنه نهلٌ من كلام الأولين واستدعاء إلى حكمتهم الضامرة. حتى قال معاصر له: "كنت لا تفرق بين صاحبي وبربرة العجوز"! وستكون لحظة 14 فبراير/ شباط فرصة له للتعويض عن تاريخ من الخيبات، طويل. وهي فرصة (؟) لأنها لا تتطلب كثير جهد في بلوغ مجدها. ذلك أنها تقوم في المقام الأساس على إشباع التوق الغريزي لدى الكائن، ونزوعه الحيواني. وهنا ستتهاوى جميع مقولات "التنوير" التي يعبث فيها كما يعبث طفل صغير في "سهّاية". فلن تعرف فرقاً بين الحقيقة والبذاءة في "الكوجيتو" التنويري لصاحب عمود "أبعاد"، ولا فرق بين الرأي الآخر والسوقية. وكأي أصولي أخروي - ممن يلقى الإدانة الشكلية في أعمدته! -، نشأ على إهدار الصوت الفردي، ستكون مماحكته مع خصومه مبتدأها في إهدار حياتهم الشخصية ومنتهاها في رميهم بالبذاءات. كما لو كان حد الأنوار إشباعاً محكماً لفضول "بورنوغرافي" لدى البشر واللهث وراء الفضائحية. وليس ما سبق لرائد فكر الأنوار أن عبر عنه : "الاستخدام العمومي للعقل في كل الميادين" - هل يفهم هذا الكلام بالمناسبة!-. وفي بحر النبوغ الحيواني هذا، ستكون أكثر "خيباته" إحكاماً، الساعة تلك، حين تمكينه من برنامج بائس موغل في الخرس واللاحوار، على أنّ تسميته من قبيل التندر "حوار مفتوح". إذ من يجروء اليوم على وسم الهذرة الصادرة عن شخص متوحّد في أستوديو، والقائمة على "التداعي الحر" للشتائم، حيث كل شتيمة تجر أختها، هكذا في تنامٍ تدرجي أشبه بالسسلسة الحيوانية، وسمه بـ"الحوار". وألعن من ذلك وسمه بـ"المفتوح" - مفتوح على ماذا؟ ومع من!؟ -. وعلى ما أراد للبرنامج استنساخاً من الصحفي المصري الكبير محمد حسنين هيكل، وإطلالاته الفردية على "الجزيرة"، تسويقاً إلى حكمة "مجرّب" خَبَر الحركة الوطنية بمعاصرتها، وآن أن "يحدّث" بخصوصها، فقد كشفت إطلالة الحمد التلفزيونية عن فقر مذقع في الصوبين: الحكمة والحركة على السواء. فلا المعاوضة عن جهاز الأمن بعرض المواد الفيلمية للمعتقلين السياسيين والمعتقلات من الحكمة في شيء، ولا من الحركة الوطنية. وهي بلا سابقة! الحال، فإذا كانت تجربته السابقة توليفاً هارمونياً من صحفي خائب رجاء ونكتة، فهي في النسخة المحدّثة داخل زمن 14 فبراير/ شباط، توليف نشاز من "ليبرالجي" تلصصي طائح حظ وحكمة ناشفة. وهو في التوليفتين، "سبّتي" الشاشات البائس بامتياز: لا يُعرف له سبق صحفي، أو خبطة تكشف مستتراً استخفى، ولا كتابة غير مسبوقة.